1_ازدهار الديمقراطية الأثينية
في قلب العالم القديم، شهدت أثينا تجربة سياسية فريدة تمثلت في ظهور الديمقراطية، نظام الحكم الذي يمنح المواطنين حق المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، مُشكّلاً نموذجاً يُدرس حتى اليوم. إلا أن هذه التجربة، الرائدة في زمنها، لم تكن بمعزل عن التحديات، بل واجهت صعوبات جمة انتهت بها إلى
التلاشي، تاركةً وراءها إرثاً تاريخياً غنياً بالدروس والعِبر. فلم تكن الديمقراطية الأثينية شاملة، فقد استُبعدت النساء والعبيد والأجانب من المشاركة السياسية، ما شكل تحدياً أساسياً لشموليتها الحقيقية. بالإضافة إلى ذلك، عانت أثينا من صراعات داخلية مستمرة بين مختلف الفئات الاجتماعية، أدت إلى انقسامات عميقة وضعف في التماسك الاجتماعي اللازم لنجاح النظام الديمقراطي. كما شهدت أثينا عدة حروب أهلية وحروب خارجية كبرى، كالحروب البيلوبونيسية التي استنزفت مواردها البشرية والمادية، مما أضعف بنية الدولة وأثر سلباً على استقرار النظام السياسي. وتمثلت إحدى أبرز نقاط الضعف في الاعتماد على المشاركة المباشرة للمواطنين في مجلس الشعب، مما جعله عرضة للتلاعب وتأثير خطابات الشعبويين والسياسيّين الذين استغلوا ذلك للتحكم بإرادة الجماهير. كل هذه العوامل، متضافرة مع الضغوط الخارجية، أسهمت في تلاشي الديمقراطية الأثينية، مُقدّمة دروساً قيّمة حول أهمية الاستقرار الاجتماعي، والتوازن بين المشاركة والفعالية في السياسة، والحاجة إلى حوكمة رشيدة وقوية لضمان استمرارية النظام الديمقراطي وتجنّب المخاطر التي تهدد استقراره حتى في أكثر الأوقات
ازدهاراً.
ازدهار الديمقراطية الأثينية:

شهدت أثينا في عصرها الذهبي، وخاصةً خلال القرن الخامس قبل الميلاد، ازدهاراً ملحوظاً للديمقراطية، مع أن هذا "الازدهار" كان حكراً على فئة محدودة من المجتمع. فبينما تمتع المواطنون الذكور البالغون بحقوق سياسية واسعة لم تكن مُتاحة قطّ في أغلب أنحاء العالم آنذاك، إلا أن هذه المشاركة كانت مقصورة عليهم فقط، باستثناء النساء والأطفال والعبيد الذين شكلوا الغالبية العظمى من سكان أثينا. لقد استندت هذه الديمقراطية إلى المشاركة المباشرة في الجمعية الشعبية (ekklesia)، التي مثّلت أعلى سلطة تشريعية، حيث كان المواطنون يُشاركوا في النّقاش واتخاذ القرارات بشكل مباشر بشأن القوانين
والمُعاهدات، كما كان لهم الحق في انتخاب المسؤولين الحكوميين المشاركة في محاكم الجُملة المباشرة. كانت هذه الجمعيات محور النظام السياسي، وتُعدّ من أبرز سمات الديمقراطية الأثينية. وساهم قادة بارزون، مثل بريكلز، بشكل فاعل في تشكيل هيكلة هذا النظام وتعزيز مبادئه، فقد عمل على إرساء قواعد متينة للحكم الديمقراطي، وحرص على تطوير برامج حكومية تكفل المشاركة المتوازنة والمنظمة، ورفع مستوى التعليم والثقافة ليكون أساساً للمواطنة الفَعّالة. إلا أن هذه الديمقراطية، بالرغم من تميّزها، ظلت تُعاني من قصورها في شموليتها بسبب استبعاد الفئات المذكورة سابقا. فقد بقي العديد من سكان أثينا خارج نطاق المواطنة الحقيقية وصُنّفوا ضمن فئات مهمشة ومحرومة من أبسط حقوقهم السياسية
التوسع الإمبراطوري وتأثيره على المشاركة السياسية:

مع نمو قوة أثينا وتوسع إمبراطوريتها البحرية الواسعة خلال القرن الخامس قبل الميلاد، بدأت تظهر تحديات هيكلية جوهرية أمام النظام الديمقراطي الذي كان يُعدّ نموذجاً فريداً في عصره. فقد أدى التوسع الإقليمي إلى تعقيدات لوجستية هائلة، مما جعل من الصعب، بل من المستحيل تقريباً، على جميع المواطنين المشاركة بشكل مباشر وفعّال في عملية صنع القرار السياسي، ذلك أن المشاركة في الجمعية الشعبية تطلبت حضورًا شخصيًا من كل مواطن، وهو أمر لم يعد ممكنًا بسبب الامتداد الجغرافي لإمبراطورية أثينا. وتفاقمت هذه الصعوبات مع ظهور صراعات ومصالح متضاربة بين أثينا وعدد من مدن الدول التابعة لها، مما أدى إلى اختلال مبدأ المساواة
الأساسي في النظام الديمقراطي الأثيني، حيث لم تعد قرارات الجمعية الشعبية تعكس إرادة جميع المواطنين بشكل عادل ونزيه. كما أنّ النمو الاقتصادي لم يكون متوازنًا، فقد ساهم تكوين الإمبراطورية في زيادة الثروة لدى فئة الأثرياء على حساب الطبقات المغلوبة على الأمر، مما فاقم من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. وفي محاولة للتعامل مع التحديات اللوجستية المتزايدة، ظهرت حاجة لإجراء بعض التعديلات على النموذج الديمقراطي، وقد تم تطبيق أشكال مبكرة من "الديمقراطية التمثيلية"، إلا أنّ هذا أدى في نهاية الأمر إلى خلق فجوة متزايدة بين الممثلين والشعب، حيث أصبح الأثرياء أكثر تمثيلاً من الفقراء، مما ساهم في تآكل مبدأ المساواة المفترض ضمن هذا النظام السياسي.
الفساد السياسي وتآكله لمبادئ الديمقراطية:

تسبب الفساد السياسي، الذي شاع خلال مراحل متقدمة من عصر ازدهار أثينا، في تآكلٍ خطير لمبادئ الديمقراطية، مُهدّداً استقرار النظام السياسي بأسره. لم يكن الفساد مجرد ظاهرة هامشية، بل تغلغل عميقاً في مختلف أجهزة الدولة، حيث استغلّ بعض المسؤولين مناصبهم لخدمة مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة. وقد تجلى ذلك في ممارسات متعددة، كالتلاعب بالقوانين، والترشح للمناصب العامة للحصول على مكاسب مالية، وإصدار قرارات غير عادلة لخدمة أفراد أو جماعات معينة، وتبديد أموال الخزينة العامة في مشاريع خاصة، أو استخدام النفوذ السياسي لإثراء الذات أو الاقتراب من مراكز القوة. هذا الفساد المُمنهج لم يُلحق الضرر المادي بالدولة فحسب، بل أسهم بشكل أساسي في انهيار الثقة بين الشعب والنظام
السياسي، فقد أدى إلى شعور المواطنين بالغضب والإحباط، مما جعل العديد منهم يفقدون ثقتهم بمؤسسات الدولة و يفقدون الرغبة في المشاركة السياسية، مع إحساسهم بالتهميش والظلم. كان هذا التراجع في المشاركة عاملاً هاماً في ضعف النظام الديمقراطي، وإضعاف إمكانية الحفاظ على استمرار التماسك الاجتماعي اللازم لسير الدولة، مما أفسح المجال للقوى المعادية للإفساد المُمنهج للمُؤسسات، والسيطرة على الحكم عن طريق التدخل والتلاعب بالسُلطات. و بالتالي شكّل الفساد عاملًا حاسمًا في تآكل المبادئ الديمقراطية، ليُساهم بشكلٍ بارز في ضعف النظام السياسي وتراجعه في المدى الطويل
التدخل الأجنبي وسقوط الأنظمة الديمقراطية:

ساهمت الحروب والغزوات الخارجية المتكررة، التي تعرضت لها اليونان القديمة، بشكلٍ حاسم في القضاء على الديمقراطية الأثينية، وانهيار نظام الحكم الذاتي لدول المدن اليونانية. فقد واجهت أثينا، خلال عصرها الذهبي، تهديدات أجنبية كبرى، أبرزها الحروب الفارسية التي استنزفت مواردها البشرية والمادية، مُعرّضةً بنيتهها السياسية والاقتصادية لخطرٍ داهم. وعلى الرغم من انتصار أثينا على الفرس، إلا أنّ هذه الحروب خلّفت أضراراً بالغة أدت إلى ضعف مُؤسساتها، مما جعل أثينا أكثر ضعفاً أمام التهديدات الخارجية لاحقاً. وكانت المرحلة الأكثر فتكاً هي الغزوات المقدونية بقيادة ملك مقدونيا فيليبس الثاني، ثم ابنه إسكندر العظيم. فقد أدت هذه الفتوحات إلى إضعاف المدن اليونانية بشكل كارثي، ثم سقوطها تحت السيطرة المقدونية، ونهاية حقبة الدول المدن اليونانية المستقلة. لم تقتصر آثار هذه الغزوات على الخسائر العسكرية فحسب، بل امتدّت لتشمل الخسائر الاقتصادية والاجتماعية البالغة. وقد فرض المقدونيون أنظمة حكم شمولية قضت على استقلال دول المدن وحكم المواطنين بشؤونهم. أصبحت السياسة اليونانية تُدار من قبل سلطة أجنبية، مع تعطيل كامل لمشاركة
المواطنين في اتخاذ القرارات الحكومية، والتقليل من أهمية مُؤسسات الدولة اليونانية محلياً. تُعدّ هذه التدخلات الخارجية حافزاً قوياً وُقودًا للإخماد الديمقراطية اليونانية و استبدالها بأنظمة سلطة مركزية أحادية. وبذلك، انتهى نظام الحكم الذي كان يُعدّ إنجازاً فكرياً و سياسياً فريداً من نوعه، محولاً اليونان إلى محافظة تابعة لإمبراطورية واسعة.
دروس من تلاشي الديمقراطية في اليونان القديمة:

تُقدم تجربة الديمقراطية في اليونان القديمة، رغم قصورها وقيودها، دروساً بالغة الأهمية للأنظمة الديمقراطية الحديثة، دروساً لا تزال صدىَها يتردد حتى اليوم. فهي تُظهر بوضوحٍ شديد هشاشة النظام الديمقراطي وقدرته على
الانهيار إذا لم تُحافظ على مبادئه الأساسية بشكل دقيق. فمن أبرز الدروس المستخلصة أهمية الحفاظ على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز، وتحقيق العدالة في جميع مُجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومكافحة الفساد بشكلٍ صارم وغير متهاون. فقد أثبتت التجربة الأثينية بأن استشراء الفساد يُضعف ثقة الشعب بالنظام السياسي، مما يُؤدي إلى تراجع المشاركة السياسية، وتفشي اللامبالاة والمشاكل الاجتماعية التي تهدد بانهيار الدولة و استقرار النظام. كما تُبرز التجربة الأثينية أهمية المشاركة الفَعّالة للمواطنين في الحياة السياسية، وإن لم تكن هذه المشاركة كاملة في ذلك العصر، إذ كانت مُقيّدة بحدود اجتماعية وطبقية. فهي تُشير إلى ضرورة توفير فرص المشاركة السياسية لجميع المواطنين، وتعزيز وعيهم بالقضايا السياسية، وإكسابهم المهارات والأدوات اللازمة للمشاركة الفعّالة، لتحقيق المشاركة المُستدامة، ومُحاسبة المنتمين إلى النظام السياسي والتأكد من التزامهم بمصالح البلاد وأهلها، مع التأكيد على الحفاظ على استقلالية السلطات والقضاء. فكل هذه العوامل مترابطة وجميعها يُشكل الركائز الأساسية لبناء دولة ديمقراطية مستقرة، قائمة على مبادئ
المساواة والعدل، وتُدرك القيود التي حوّلت نموذجها من مُثل إلى تجربة تاريخية.
الخاتمة:
على الرغم من أن الديمقراطية الأثينية لم تدم طويلًا، إلا أنها مثلت خطوة تاريخية مهمة في تطور الفكر السياسي. وتُذكرنا تجربة تلاشي الديمقراطية في اليونان القديمة بأهمية التصدي للتحديات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية والعمل على تعزيز مبادئها وقيمها.
في الختام، وعلى الرغم من أن الديمقراطية الأثينية لم تدم طويلًا، بل انتهت بعد بضعة قرون من ظهورها، إلا أنها تُمثّل خطوةً تاريخيةً بالغة الأهمية في تطور الفكر السياسي الإنساني، وبمثابة معلم بارز في مسيرة البحث عن أنظمة حكم عادلة تُعزز المشاركة المدنية. فقد كانت تجربةً رائدةً، مهما كانت قيودها واستثناءات فئاتها، أسهمت في صقل مفهوم الحكم الشعبي وفرضت النقاش حول أهمية المشاركة في تقرير مصير الشعوب. إنّ دراسة أسباب تلاشي الديمقراطية في اليونان القديمة لا تُعدّ مجرّد مُمارسة تاريخية جافة، بل تُذكّرنا باستمرار أهمية التصدي للتحديات اللازمة للحفاظ على استمرار الأجهزة الديمقراطية
ومُؤسساتها. فعلى الدول والشعوب التي تتبنى الديمقراطية أن تتعلم من تجربة أثينا، وتعمل على تعزيز قيمها ومبادئها أساسًا لضمان بقاء الديمقراطية وقوتها من خلال مُحاربة الفساد، ومُعالجة الخلافات الاجتماعية، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتفعيل المشاركة الشعبية الفعّالة والواعية، وكذلك مكافحة أيّ تأثير خارجي أو داخلي يُهدد بانهيار هذا النظام، مع الاعتراف بأنّ الحفاظ على الديمقراطية هو مسؤولية مستمرة تتطلّب جهوداً متواصلة من جميع أفراد المجتمع، لأن الديمقراطية ليست نهاية بحد ذاتها، بل هي بداية مشوارٍ طويلٍ يتطلّب السعي المستمر لإثراء مبادئه وتحقيق مُثُله العليا