قتيبه مطاوع
Jan 18

الديمقراطية في أثينا وأسبرطة: أوجه التشابه والاختلاف

عُرفت كل من أثينا وأسبرطة، دولتَا المدينة اليونانيتان العظيمتان، بنظم الحكم فيهما، وإن اختلفت طبيعة تطبيق المبادئ الديمقراطية في كل منهما. فبينما سطّرت أثينا مفهوم الديمقراطية المباشرة، تبنت أسبرطة نظاماً فريداً أكثر استبداداً مع بعض السمات المجتمعية التشاركية. يهدف هذا المقال إلى استعراض كيفية حصول المواطنين في كلتا المدينتين على حق المشاركة السياسية، ولو

بشكلٍ مُختلفٍ جذرياً. ففي أثينا، كان الشعب يشارك بشكلٍ مباشر في عملية اتخاذ القرارات من خلال الجمعيات الشعبية والمجالس المُختلفة، حيث كان يُمكن لأي مواطن أثيني حر أن يُعبّر عن رأيه ويشارك في النقاش والتصويت على القوانين والمشاريع العامة. أما في أسبرطة، فكان الحكم مركّزاً في أيدي فئة نخبوية من المحاربين "السبارتيين"، مع وجود مجلس شيوخ يُشرف على شؤون الدولة. لكن على الرغم من ذلك، كان للمواطنين السبارتيين حق المشاركة في بعض المجالس والجمعيات، وخصوصاً في مجال القرارات العسكرية والقضايا المُتعلقة بالشؤون الحربية. سنُبرز في هذا المقال أوجه الاختلاف في بُنى الحكم والاختصاصات المُنَصبة في كل من المدينين، وكيفية اختيار شاغلي المناصب العامة في كل منهما، مع التوسّع في شرح الآليات والطرق المُتّبعة في ذلك، مُسلّطين الضوء على الخصائص المُتميزة لكل نظام من هذه النظم، ومُقارنتها ببعضها البعض، مع تحليل أسباب تباين التطبيق للمفاهيم الديمقراطية في كل من أثينا وأسبارتا


المشاركة السياسية في أثينا:

شهدت أثينا تطورًا تدريجيًا للمشاركة السياسية، بدءًا من نظامٍ قُدِم فيه الحكم لِطبقة الأرستقراطيين، إلى نظامٍ أكثر شموليةً ومشاركةً من قبل جميع أفراد المجتمع. فقد كانت إصلاحات سولون، في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، خطوةً حاسمةً في هذا التحول. فقد منحت هذه الإصلاحات للمواطنين الأثينيين الأحرار، الذين كانوا يتكونون من الذكور البالغين من أصل أثيني، الحق في المشاركة في الحياة السياسية من خلال الجمعية الشعبية، مما مثل توسيعًا لمُشاركة الفئات العامة في قرارات المدينة. ومع

ذلك، ظلّ هذا النظام مُقيّدًا بمُتطلبات المُلكية في بعض الاحيان. لكنّ التقدم لم يتوقف، فقد أحدث كليسثنيس في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، تحوّلًا ثورياً بإصلاحاته الجذرية التي وسّعت حق الاقتراع ليشمل جميع المواطنين الأثينيين، بصرف النظر عن مستوى ثرواتهم. وهكذا، وضع كليسثنيس أساس نظام ديمقراطي أكثر شمولًا، مُتيحًا المشاركة السياسية لجميع أفراد المجتمع بشكل أكثر عدالة، ومُساهماً بقدرٍ كبيرٍ في تشكيل المُجتمع الأثيني ودوره في تاريخ الحضارة الغربية كمُلهمٍ لأنظمة ديمقراطية لاحقة.

المشاركة السياسية في أسبرطة:

في أسبرطة، اتخذت المشاركة السياسية منحنىً مختلفاً تماماً عما عُرف في المدن اليونانية الأخرى. فقد أرست إصلاحات ليكرغوس، التي تُنسب إليه تقليدياً، أساس النظام السياسي الأسبرطي، مُنحةً جميع المواطنين الأسبرطيين الذكور، بمعنى أبناء

أسبرطة الأصليين الذين اجتازوا التدريب العسكري الشديد (الأغوثيا)، الحق المُشترك في المشاركة في الجمعيات الشعبية (أبلا)، التي كانت تمثل أعلى سلطة تشريعية. إلا أن هذا الواقع كان يُخفي تركيزاً كبيراً للسلطة في أيدي النخبة العسكرية، مُجسّداً في مجلس الشيوخ (غيروسي) الذي تكوّن من 30 عضواً انتُخبوا للمُؤبد مع التقدّم في السن، والملوك الذين حافظوا على نفوذهم السيادي ورئاسة الجيش. لم تُمثّل الجمعيات الشعبية، رغم صلاحياتها النظرية في الموافقة على القوانين وإقرار الحروب، سوى قناة مُنغلقة على التأييد لقرارات النخبة الحاكمة، مع إمكانية التعبير عن الرفض بإلغاء التصويت. وبذلك، تُظهر أسبرطة صورةً متناقضةً للديمقراطية، مع مشاركة واضحة للمواطنين في مظاهر الحياة السياسية، لكن مع تحكّم فعلي للسلطة في أيدي قلة مُختارة بفضل مُكانتهم العسكرية وموقعهم الاجتماعي المُتميّز، مُحافظةً على نظام وليٍّ لأمر بأسلوب مُختلف

شاغلو المناصب العامة في أثينا وأسبرطة:

في أثينا، على الرغم من النظام الديمقراطي النظري الذي سمح لأي مواطن أثيني بالغ بممارسة حقه في تولي المناصب العامة، إلا أن الواقع كان يختلف اختلافاً كبيراً. فقد سيطرت النخبة الثرية، بفضل ثرواتها وتأثيرها الاجتماعي وإمكانياتها الاقتصادية المتميزة،

على أغلب المناصب الحكومية العليا، مستخدمة نفوذها للتأثير على الرأي العام و توجيه مسار السياسة. وحتى مع وجود الجمعيات الشعبية والحوار السياسي، فإن الواقع أظهر عدم تساوي الفرص، حيث حُرمت فئات كبيرة من السكان من المشاركة الفعلية في الحياة السياسية بسبب المعوقات الاقتصادية والاجتماعية. وبالمقارنة مع النظام الأثيني، فقد شهدت أسبرطة هيمنة مُطلقة للقلة العسكرية على مناصب القيادة و اتخاذ القرارات المهمة. فقد كان التنظيم الاجتماعي الأسبرطي يعتمد بصورة أساسية على القدرات البدنية والعسكرية، حيث كان الانتماء للطبقة العسكرية الحاكمة هو الشرط الرئيسي للوصول إلى مناصب السّلطة و النفوذ. وبذلك، كان النظام السياسي الأسبرطي يُركز على القوة العسكرية كمقياس للقيادة و التميز، مما أدى إلى إقصاء فئات كبيرة من السكان عن المشاركة في الحياة السياسية، مُشكلاً نظاماً أقل شموليةً و أكثر تركيزاً على هيمنة فئة معينة. وتُظهر المقارنة بين النظامين مدى التباين بين المبادئ النظريّة و الواقع العملي في إدارة الشؤون العامة


قواعد اختيار شاغلي المناصب العامة:

في أثينا، التي اشتهرت بنظامها الديمقراطي، كان اختيار شاغلي الوظائف العامة عملية مُحكمة تعتمد على مزيج من الانتخابات والقرعة، حيث كان يتم انتخاب بعض المسؤولين بناءً على كفاءتهم وشعبيتهم، بينما كان يتم اختيار آخرين بالقرعة لضمان تمثيل عادل لجميع المواطنين و لتقليل احتمالية

سيطرة فئة معينة. أما في أسبرطة، فكانت آلية اختيار المسؤولين تختلف اختلافاً جوهرياً، حيث كان يتم الجمع بين الانتخابات التي تعتمد على اختيار الأفضل من بين المرشحين، و التعيين الذي يعتمد على اختيار المُناسبين من قبل السلطات العليا، ما يُشير إلى نظام أقل ديمقراطية وأكثر تركيزاً على الخبرة والولاء للنظام الحاكم. هذا الاختلاف الجوهري في طرق اختيار المسؤولين يعكس الاختلافات الأيديولوجية والاجتماعية العميقة بين المدينتين اليونانيتين الكبيرتين، ويُبرز التناقضات بين المُثُل الديمقراطية الأثينية وبين النظام الوليّ الأوليغارشي الأسبرطي. كان للطريقة المستخدمة في اختيار المسؤولين تأثير عميق على بنية الحكومة والسياسة في كلتا المدينتين، مما أثر على تطورهما السياسي والاجتماعي بشكل مباشر


أوجه التشابه والاختلاف في التكوين الحكومي:

تشابهت أثينا واسبرطة في كونهما دولتين مدنيتين مستقلتين، لكن اختلفتا جذرياً في نظامهما السياسي. فبينما اعتمدتا شكلاً من أشكال المشاركة الشعبية في الحكم، إلا أن هذه المشاركة اختلفت في المدى ودرجة الشمول. فقد تميزت أثينا بنظام ديمقراطيّ أكثر شمولاً، حيث شارك المواطنون – رجالاً أحراراً فقط - بشكل واسع في صنع القرار السياسي، من خلال مجالس الشعب والمحاكم الشعبية. هذا النظام سمح بمشاركة أوسع قطاعات المجتمع، ولو بقي مُحاطاً بقيود مُحددة بالانتماء العرقي والجنس والثروة. أما أسبرطة، فكان نظامها أكثر أرستقراطية بمُعدلات مُتباينة للمُشاركة الشعبية. فقد سيطر نخبة من الطبقة الحاكمة على المشهد السياسي، مع مُحدودية مُشاركة الفئات الأُخرى في مُجريات الحكم. كان تأثير

المجلس الجيلوني (Gerousia) كبيرًا في اتخاذ القرارات الهامة، مما أكد سيطرة الأقلية الحاكمة. على الرغم من وجود "أبِلا" (Apella) – جمعية شعبية - إلا أن صلاحياتها كانت مُقيدة، حيث كان لها دورٌ أكثر تشريعيًا من دورها الوصاي. بذلك، نجد أنّ كلا المدينتين دعمتا مُشاركة شعبيّة، لكنّ هذه المُشاركة كانت تختلف اختلافًا كبيراً في درجة الشّمول والنّفوذ والتّأثير في اتخاذ القرارات السياسيّة الحاسمة. وقد أثّر هذا الاختلاف الجوهري في نظامهما السياسيّ على تطورهما وخصائصهما الثقافية والمجتمعية.

في الختام، وعلى الرغم من تصنيف كل من أثينا واسبرطة كدولٍ طبقت، بشكل أو بآخر، مفهوم الحكم الديمقراطي، إلا أن الاختلافات الجوهرية بين تطبيقهما كانت واضحة ومؤثرة. ففي أثينا، تميزت الديمقراطية بشموليتها النسبية، إذ شارك عددٌ كبيرٌ من المواطنين الحرّين في إدارة شؤون المدينة من خلال مجالسها وأساليب تصويتها. هذا الشمول النّسبيّ، رغم استثناءه للفئات مثل النساء والعبيد، يُعدّ خطوةً متقدمةً في تَمثيل إرادة الشعب مقارنةً بالنظم الحاكمة الأُخرى في ذلك العصر. أما في اسبرطة، فكانت الديمقراطية

مقيّدةً بشكلٍ كبيرٍ، مُركّزةً الصلاحيات في أيدي النخبة العسكرية الحاكمة. لم يشترك سوى قسم صغيرٌ من المواطنين، ذوي الأصل والهوية الأسبرطية المحددة، في السلطة. وعليه، كانت الديمقراطية الأسبرطية أكثر تشابهًا مع أشكالٍ أُخرى من الحكم الأوليغارشي، تفتقر إلى المشاركة الواسعة للشعب في اتخاذ القرارات المصيرية. تُبرز مقارنة النظامين مدى تنوع مفهوم الديمقراطية حتى في إطارٍ زمنيٍّ واحدٍ، مُظهرةً كيفية تطوّر ومُلاءمة المُفاهيم الحاكمة للسياقات الاجتماعية والثقافية المحددة. وبهذا، يبقى التحليل المُقارن للتجارب الأثينية والأسبرطية دراسةً قيمةً لفهم التاريخ المُعقّد لِمُفاهيم الحكم والسلطة في العالم العربي